يقوم في حساب المسلم وعقيدته أن نمو النعمة وزيادتها وحفظها من السوء والهلاك، كل ذلك
يسمى البركة، وهي في جوهرها منحة إلهية يختص بها الله تعالى من يشاء من خلقه.
البركة هي زيادة في القليل، وسعة في الضيق، وهي كثرة ووفرة ونماء. وقد ورد ذكر البركة في آيات كثيرة من القرآن الكريم والسنة المشرفة. وفي بيان مفهوم البركة وتوضيح عدد من سبل جلبها، التقينا الدكتور كامل صكر القيسي، الباحث في إدارة الإفتاء والبحوث في دائرة الشؤون الإسلامية والعمل الخيري في دبي.
ويستهل حديثه موضحا أن البركة هي إحدى ثمار الطاعة، وهي من الأسس المعتمدة في عقيدة المسلم وتصوره، وإحدى مفردات لغة الإيمان التي يتعامل بها المؤمن عند الأسباب والمسببات. يقول النووي في شرح معنى البركة: وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والاستمتاع به. وفي شرح منتهى الإرادات: البركة، الزيادة أو حلول الخير الإلهي في الشيء.
{البركة في القرآن الكريم}
يأتي لفظ البركة في القرآن الكريم بمعنى العطاء الكثير الذي يتجاوز حد العد والحساب، وتأتي البركة دائما بصيغة الجمع الذي يدل على الزيادة والكثرة، وهي قد وردت في ثلاثة مواضع في القرآن الكريم، الأول قوله تعالى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (سورة الأعراف/ الآية 96). والثاني قوله عز وجل (سورة هود/ الآية 48). {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبطْ بسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ}، والموضع الثالث قوله تعالى {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجيدٌ} (سورة هود/ الآية 73).
والأن البركة بمعنى الرفعة والعلو، فقد وصف الله تعالى بها بيته الحرام، وكتابه العزيز، فضلاً عن أراضٍ وأماكن وأشخاص وأشياء، من ذلك قوله تعالى {إِنَ أَوَّلَ بَيْتٍ وَضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي ببَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} (سورة آل عمران/ الآية 96). ووصف كتابه بأنه مبارك {وَهَذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (سورة الأنعام/ الآية 92). ووصف عيسى عليه السلام نفسه فقال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيَّا} (سورة مريم/ الآية 31). وقال الله تعالى {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبينٌ} (سورة الصافات/ الآية 113)، ووجه نبيه أن يدعو بأن ينزله منزلا موصوفاً بالبركة فقال {وَقُل رَّبِّ أَنْزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ المُنزِلِينَ} (سورة المؤمنون/ الآية 29). ووصف شجرة الزيتون بأنها مباركة، فقال تعالى في (سورة النور/ الآية 35) {اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. ووصف أراضي وأماكن مقدسة وقرى بالبركة، من ذلك قوله عز وجل في مستهل (سورة الإسراء) {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
{البركة في السنة المطهرة}
نجد لفظ البركة حاضرا في السنة النبوية المطهرة، وقد وردت البركة بصيغة التضعيف والتثنية أيضا دلالة على الزيادة والنماء. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): <<اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما بمكة من البركة>> - رواه مسلم. وعن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، قال: <<اللهم بارك لنا في صاعنا ومدنا، واجعل مع البركة بركتين>> - رواه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إذا أُتي بلبن قال: <<بركة أو بركتان>> - ابن ماجه. وعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لفاطمة: <<ائتني بزوجك وابنيه>> فجاءت بهم، فألقى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كساء فدكيا، ثم وضع يده عليهم ثم قال: <<اللهم إن هؤلاء آل محمد، فاجعل مجيد>> قالت أم سلمة: فرفعت الكساء لأدخل معهم، فجذبه من يدي وقال: <<إنك على خير>> - المعجم الكبير. وفي شرح قول الرسول (صلى الله عليه وسلم): <<اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم>> - البخاري ومسلم، قال القاضي: البركة هنا بمعنى النمو والزيادة وتكون بمعنى الثبات واللزوم.
{العلاقة بين البركة والتقوى}
إن تقوى الله عز وجل مفتاح كل خير، قال تعالى {...وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاَّ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ...} (سورة الطلاق/ الأيتان 2 - 3). وقد عرّف العلماء التقوى بأن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله، تخاف عقاب الله. أما البركة فهي الزيادة التي تنتجها التقوى لتكون ثمرة لها، والدليل على ذلك قوله تعالى {وَلَوْ أَّنَ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (سورة الأعراف/ الآية 96). وقوله عز وجل {وَأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقاً} (سورة الجن/ الأية 16). وفي الأثر أن الرب تبارك وتعالى قال: <<إذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية، وإني إذا غضبت لعنت، ولعنتي تدرك السابع من الولد>> الزهد لابن حنبل، وحلية الأولياء. وإذا زلت القدم في الخطأ والعصيان، لم يكن ذلك سببا لمحق البركة، مادام المسلم يسارع إلى التوية والإنابة والإستغفار، فمن لزم الأستغفار فتح الله عليه أبواب الرزق والبركة، وفرّج همه، وأزال كربته ورزقه من حيث لا يحتسب. قال الله تعالى {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفَّاراً يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً} (سورة نوح/ الآيات 10 إلى 12). وقوله تعالى على لسان هود عليه السلام {...ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدراراَّ...} (سورة هود/ الآية 52).
وقديما قيل لرجل من الفقهاء: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} فقال الفقيه: <<والله، إنه ليجعل لنا المخرج، وما بلغنا من التقوى ما هو أهله، وإنه ليرزقنا وما اتقيناه، وإنا لنرجو الثالثة>> {...ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} (سورة الطلاق/ الآية 5).
{أعمال تجلب البركة وتحفظها}
تحل البركة في حياتنا يوم أن يلتزم المرء بأمر الله، وتوجيهات رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ويكون شعاره دائما تقوى الله، حيث ما حل وارتحل، لتصبح التقوى امتثالا في القلب تجاه أمر الله، وشفافية في الضمير، تجاه ما نهي عنه وزجر، عندها تغشى السكينة الإنسان وتحل عليه البركة.
الأعمال الصالحة، هي الأبواب التي تجلب الخير والبركة، وحين نتأمل آية الإنفاق، وهي الأية 261 من سورة البقرة، ونتمعن في كل كلمة وفي دلالتها على عمق المعنى الذي تؤديه، والدلالة التي توحي بها، فإننا نفهم معنى البركة، قال تعالى {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم}، فالحبة الواحدة تنبت سنبلة واحدة، لكن البركة في الإنفاق جعلتها سبع سنابل، والطبيعي أن تكون في السنبلة عشرون حبة أو أكثر بقليل، لكن البركة جعلتها مئة، ولم تكتف الآية بتلك الزيادة، لكن القرآن جعلها تتضاعف أضعافا كثيرة، وقال علماء اللغة: إن كل معدود قليل مهما كثر لأن له حدودا. من أجل ذلك لم يكتف القرآن بذلك، جاعلا الزيادة لا حدود لها فهي زيادة مطلقة غيرمقيدة، ولذلك ختمت آلاية بقوله {والله واسع عليم}، فتلك زيادة ليس لها مقدار معين لأن الباب الذي تخرج منه باب واسع لا يعرف مداه إلا الله، وهذا الباب هو الذي يمثل البركة في حساب الله عز وجل.
وكما أن الإنفاق يجلب البركة في سعة الرزق فإن صلة الرحم كذلك. قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): <<من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه>> - البخاري ومسلم، وفي رواية:<<صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار، تعمر الديار وتزيد في الأعمار>> - أحمد. يقول النووي: <<ينسأ>> أي يؤخر، و<<الأثر>> الأجل، لأنه تابع للحياة في أثرها، وبسط الرزق توسيعه وكثرته، وقيل البركة فيه. هذه الزيادة بالبركة في عمره والتوفيق للطاعات وعمارة أوقاته، بما ينفعه في الآخرة، وصيانتها عن الضياع في غير ذلك>>.
والدعاء من الأعمال الصالحة التي تجلب البركة، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم)، يطلب البركة في أمور كثيرة، فعلمنا أن ندعوا للمتزوج فنقول: <<بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير>> - رواه أحمد وأبو داود، والدعاء لمن أطعمنا: <<اللهم بارك لهم فيما رزقتهم، واغفر لهم، وارحمهم>> - رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقد دعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأنس بالبركة، فقال: <<اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيما أعطيته>> - رواه البخاري ومسلم. قال أنس فواللـه إن مالي لكثر، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون على نحو المئة اليوم>> - رواه مسلم وإبن حبان.
Komentar